كيف يمكن أن نطرح سؤالاً حول الاعتدال او الوسطية، و كيف لنا التمييز بأنَّ هذه المجموعة او تلك من الأفراد، معتدلة او وسطية، او انّها خرجت من دائرة ذلك، او انّها بطيئة بخُطاها، او هي سريعة متطرفة في مشيها؟.. قبل الاجابة على هذه الاسئلة بشكل مقتضب او جامع، نشير الى انَّ لكل شخص، مهما كان، الحق في السؤال.. حقه في أن يسأل أيَّ سؤال ما لم يكن منافياً للعفة او البوح بالاسرار، بصورة عامة، و لايعني هذا،أنَّ عدداً من الناس يتمسكون بذلك او لايتمسكون! ولكنّها القاعدة و الاصول العامة التي يرتكز عليها المجتمع دون الالتفات إلى شذوذ وانحراف هنا و هناك. و على هذا، فلا يحق لأحد أن يعترض على السائل و يوآخذه على ماسئل!... الامام الخميني (قدس سره) في هذا المجال، و كما هو المتوقع، معيار للسلوك المعتدل عند الأفراد.. حيث يتوجب انْ لا تتوفر ظروف شائبة يكون فيها السؤال موجهاً بريبة! إلى ما كان يتمتع به الامام(قدس سره) من اعتدال. ذلك بأنّه كان ناجحاً جداً في هذا المضمار، ليس في حياته الخاصة فقط، بل في تدريس الفقه، العرفان و الفلسفة، كاُستاذ يشار اليه بالبنان، و كزعيم و قائد لثورة استطاع الوصول بها الى النصر بأقل ما يمكن من التضحيات و هو يواجه في ذلك، مجموعات متطرفة جداً من الإسلاميين، العلمانيين او الماركسيين على حد سواء. و بما انه كان قد اُبتُلى بافراد متطرفين و مُتباطئين و مذبذبين، فقد ظهر ذلك في خطاباته و رسائله و كتبه و مقابلاته كثيراً. إنَّ من يريد الحصول على حقيقة الاعتدال و السلوك المعتدل لشخصية الامام (قدس سره)، فلْيرى جميع ذلك.
قد يتبادر إلى الذهن، بأنَّ المُراد، هو فتح باب للبحث في موضوع هام يدور في خلج المجتمع و تتطلب الاجابة عليه، فيما يتعلق بالاعتدال.. ماهيته و ما المقصود منه.. و كيف يكون الفرد معتدلاً!؟ ... من الواضح، أنَّ كلمة "معتدل" عربية و جذرياً تلتقي بكلمة "العدل" و هنالك فرق في استعمالها باللغة العربية و اللغة الفارسية، من حيث المفهوم الذي تشير اليه، لكنّ ذلك لايمنع من استعمالها عند عامة الناس بمفهومها العربي، لوجود علائق مشتركة كثيرة بينها و بين استخدامها باللغة الفارسية من حيث الايجاب ، فعند اكثر الناس في العالم، المفهوم الذي تشير اليه هو المفهوم الايجابي، ايضاً و بما أنَّ القرآن الكريم يوصى بالعدل و الاعتدال في الحياة، و في ذلك احاديث و روايات كثيرة، فالمسلمون يسعون الى التمسك بذلك بل و حتى الذين لا يدخلون في اطار الاعتدال، يعتبرون انفسهم معتدلين و غيرهم خارج الاطار المذكور! على هذا، ينبغي من الناحية العقلية، للملتزمين بالدين الحنيف، أن تكون هناك مقالات للتعريف بالشخص الملتزم بالاعتدال و غيره حسب الموازين المستقاة من الوحي. فالنظرة التي فطر الله تعالى عليها الانسان، في ذاتها، تسوق الانسان الى العدل و الاعتدال و تدل عليه من حيث القيمة و الاعتبار، الاّ انه قد يحدث احياناً، أنْ ينصرف الانسان إلى ايجاد حالات لو سقط عنها جانب العدل و الاعتدال، لاصبحت اعتيادية، طبيعية، لا ترقى إلى مستوى كونها ملحمة اواسطورة! فعلى سبيل المثال، لو كان حب قيس لـِ (ليلى) الشديد، الذي اَوْدى به إلى الجنون، حُباّ متعادلاً، لما حظى بما حظى به من العناية في ادب العرفان! حبُّ فَرهاد لِشيرين ايضاً و هل أنَّ ما اشتهر به حاتم الطائي من سخاء و كرم، يتماشى مع الوسطية؟ .. ما قاله الفردوسي الحكيم حول شخصية رستم و تحويله إلى اسطورة ، و ما قاله الشاعر الكبير، العارف الكبير مولانا فيما يتعلق بالمحبوب و الخمر و ما يدور حولهما و ما يختلج في أعماق الأنسان ..، و ما قاله الشاعر العارف حافظ في هذا المضمار حول الحبيبة و الخمر و الشفاه و العيون و الضفائر.. هل أنَّ ذلك يتماشى و القول المعتدل؟ .. إذا ما أَزلنا المبالغة عن الرسوم التشبيهيّة (الكاريكاتور) و رسمناها كما هي في طبيعتها.. فمايبقى منها اذن؟ إنَّ الذين يخلقون ملاحم كبيرة، لا يمكن مشاهدة الاعتدال و الوسطية في مسارهم، كذلك الذين قاموا باختراعات و اكتشافات عظيمة، لو اتَّبعوا خط الاعتدال و عاشوا و ماتوا كبقية الناس، لاذكر و لا اثر لهم، بالاحسان او الأساءة..! هل، اليوم، يذكرهم التاريخ بالخلود و العظمة؟ و هل كانوا يخترعون شيئاً او يكتشفون؟! لواردنا، حذف الحب، و هو متمرّد وعاصٍ بذاته، عن المحبين، لحذفنا بذلك التعالي و الصعود و الرُّقى من الانسان! على رغم انَّ الحب نار ملتهبة، متناثر شررها..! حتى انّ الداعي، في الادعية الاسلامية، يدعو الله تعالى، إلى أنْ يعامله بفضله لا بعدله! يمكن حل هذين النقيضين، أيْ أنّ التعادل ممدوح و مراد، و الحب الملتهب المتناثر شرره، مُعْجَب به و مُستَحسن، رغم انه و التعادل على خلاف! يُمكن الوصول إلى حل بطريقتين، فالاعتراف بالحب الجارف الملتهب او ما شابه ذلك، دون النظر إلى مايقوله العقل، و تبيين مقاسات للوصول الى نتيجة مُرضية، هو ما نطمح اليه:
الطريقة الاولى، فكما يجب اعتبار احترام القانون ارضاً و الاخلاق سقفاً، فعلينا اعتبار الاعتدال ارضاً و الحب سقفاً! مع الالتفات إلى انَّ الحب و الهوى يختلفان و لايجب انْ نعتبر، انَّ لهما مفهوماً واحداً او انّهما مترادفان! لأنَّ الحب الوصول إلى من تحُب والهوى الوصول إلى الانانية باسم الحب! .. ويمكن مشاهدة الحب في مسألة المرأة التي جاءت إلى الامام علي(ع) ليحكم بينها و بين اُخرى في قضية لأيّهما يعود الولد. فلما رأت اصرار الاخرى على ذلك، غضّت النظر عن ولدها، لحبّها اياه. و كانت النتيجة أنْ اصدر امير المؤمنين عليه السلام حكماً لصالحها، حيث احتضنت ولدها و انصرفت فرحة مسرورة. انّ المحب لو علم بانّ قلب المحبوب لامكان له فيه، و انَّ آخر يسكنه، لانصرف و دعا لهما بالخير و النجاح، اما الذي يبحث عن لذة و يدّعى الحب، فيرشق المحبوب الذي مال إلى خطيب آخر بـ "الحامض" اي "الأسيد"!.. الطريقة الثانية لحل التناقض المذكور، هي، أنْ نتوصل إلى العقل الذي يضم الفكر، القلب، الذكاء، الصور، التدبير و الحب، على شكل وحدة غائية متكاملة و هي مظاهر شتى للذات الانسانية، كما جاء في القرآن الكريم. عند ذلك، نحصل على معايير لتقييم تعادل السلوك، و انطباقها مع معايير العقل بالمفهوم القرآني الذي جاءت فيه لتكون الميزان في هذا المضمار.الامام الخميني (قدس سره)، احد الشخصيات التي خطت على ذلك المسار و تركت آثاراً هامة، حول الاعتدال و الوسطية، حسب تعاليم الوحي و حسب ما ورد اعلاه من مصطلحات، او مترادف لها من حيث العرفان، الفلسفة، السياسة و الاخلاق، و يعطينا مقاسات، لتقييم الوسطية و التطرف و التباطُؤ، و فصلها عن بعضها البعض، و لاصحاب الفكر و التأمّل و كذلك المنتقدين، الحق في تقييم ما قام به، حسب الموازين التي وضعها و بيّنها.. و هل كان سماحته، حسب الجمع الجبري، على صراط الاعتدال ام لا؟. في آثار الامام (قدس سره) جاء مصطلح الاعتدال 98 مرة، و مصطلح المعتدل 44 مرة، كذلك، استخدم الوسطية كمترادف لكلمة الاعتدال مرتين و لكلمة الاقتصاد مرتين ايضاً. كما انَّ الوسطية او الطريق الوسط، جاء في آثاره مرتين.
عند غض النظر عن المصطلحات الاخرى الواردة في آثاره و هي كثيرة، و الوصول الى قراءة جامعة، متكاملة حول ما ذكر من المفاهيم اعلاه، نستطيع التوصل الى مفهوم الوسطية، حسب ما يراه، اولاً و انَّ الاعتدال ذو اُسس اخلاقية و حياتية عميقة، ثانياً. و كلَّ فكر، رغم مايبدو على الظاهر، عرفاني او فلسفي.. لا يأخذ بعين الأعتبار، الاعتدال، اضافة الى انّه غير اخلاقي، هو الضلالة بعينها!
فقد عرض سماحته (قدس سره) عدة موارد لأعتدال المعرفة ( اي الاعتدال المبني على المعرفة) في موضوع الالتفات إلى ظواهر و باطن الشرع، حيث اوضح بأنّ اهل الباطن الذين لا يعيرون اهمية لظواهر الشرع، و كذلك اهل الظاهر، الذين يهتمون بظواهر الشرع فقط و يهملون الباطن.. هم خارجون عن مسار اعتدال المعرفة (ر.ج.آداب الصلاة ص 29،88 و 179)؟! و تفسير سورة الحمد (ص 75). لقد ذكر الامام (قدس سره) في "التقارير الفلسفية" الاعتدال 19 مرة.. و ابسط مباحثه في ذلك، هذه المسألة التي يذكرها، بأنَّ مراحل نمو الاعتدال عند الانسان، هي على ثلاث جهات: العرض، الطول، و العمق.( ج3 ص 29).
المُلفت للنظر، انَّ الامام (قدس سره) و خلال المباحث الفلسفية حول حركة جسم الجنين الى حين تواجد المُخ و الحاسة اللامسة، يعبّر عنه بالتقييم التالي: انَّ هذا الجنين هو ماكان سابقاً (في الوجود) و تحرك حتى بلغ المخ (حتى انبثاق المخ)، الذي يُعتبر اعدل جسم من الاجسام المتواجدة في الجنين، و هو على افضل مايكون من حيث الاعتدال و اللطافة، بحيث نعتبره عرش اجسام الطبيعة و نهاية جسم معتدل للطبيعة. و هذه هي آخر مرحلة للجسم الذي تحرك في جوهره و وصل إلى اول درجة للأحساس و هي اللامسة.(التقارير الفلسفية. ج 3. ص 73). لقد استخدم الامام (قدس سره) في (التقارير الفلسفية)، و كذلك في آثاره الاخرى، في موضوع الفضائل و الرذائل الاخلاقية، استخدم كثيراً مصطلح الاعتدال، معتبراً انّ الاخلاق تقوم على اربع قواعد: الشجاعة، السخاء، العفة و العدالة، حيث عرض مواضيع معقدة حول العدالة، من بينها انّها احدى قواعد الاخلاق و في نفس الوقت مُقَوِّمة للقواعد الثلاثة الاخرى. فعلى سبيل المثال، اذا انحرفت الشجاعة عن الاعتدال، تتحول الى تَهَوُّر، و هو مذموم.( التقارير الفلسفية. ص 356-363)،فاحد مواضيع الاعتدال التي يمكن انْ يفهمها عامة الناس، و بطبيعة الحال، تضم نوادر ظريفة، هذه الجملة التي اوردها الامام (قدس سره) في (التقارير ...):
لقد جاء الانبياء (ع) ليحُولوا دون الخطأ في انطباق الغريزه. ذلك، لأنَّ ارادة التوحيد، هي، ماهية (جبلة) و ذاتية الانسان، بل هي ذاتية كل الموجودات في العالم، و من المستحيل انفصال ذلك عن الكوميون البشري. هذا الحب الذاتي الموجود في كوميون الذات، اذا ما اراد ان يكون على صراط الصدق المستقيم و عدم الخطأ، عليه ان يتمتع باَصلين: الاول الحكمة و الثاني الحرية. فاذا استطاع الأنسان أنْ يوفر الصفاء الذاتي، يتم الحصول على المفهومين المذكورين. حيث انه يقع في اطار الاعتدال بنفس المستوى و الدرجة. في هذه الحالة لا وجود لأنحراف في الفطرة، فلايمكن تحمّل الوصول الى الكمالات جميعاً عن طريق ضعف الوجود و عدم صفاء الذات! حيث يتكون الاختلاف بين (الروحيات)، فاذا ما ركنت الى ايٍّ منها، ستنصرف عن الاخرى! كما ثبت ذلك خلال التجارب. فالذي تيأمّل و يدقق كثيراً في (العقليات)، يتبعد، إلى حدما، عن العبادة و التقوى! و الذي تكون مشغلة فكرة و اشعاعه قليل (اي تمدد و انبساط فكره)، تكون ناحية التقوى عنده اكثر! و ما احسن القائل، عندما قال: الذي لا يعرف من الفقة الّا قليلاً، يكون زهده و تقدسه اكثر! و الذي لايعرف من الاصول شيئاً، يُصبح اخبارياً!( التقارير الفلسفية. ج 3. ص 339-340). اضافة الى انَّ الامام (قدس سره) يعتقد بانَّه، ما عدا الانبياء(ع) الذين كانوا على اعتدال كامل، فالآخرون و بما فيهم (الحكماء، الفلاسفة و العلماء) لم يكونوا كذلك. (نفس المصدر ص 358). الّا انَّ اعقد مبحث فلسفي لسماحته، حول الاعتدال، هذه العبارة التي تعرضت للاعتدال نفسه في قوة العدل نفسه! و تحتاج إلى شرح و بيان اكثر، لا مجال له هنا(في هذا البحث المختصر)، كذلك يتوجب تحويل قوة العدل، لكونها من الاصول، ايضاً، كما ذكر البعض، إلى حالة اعتدال...( نفس المصدر،ج3، ص 363).