ريتشارد فالك، بروفسور متقاعد في القانون الدولي في جامعة برينستون، ومراسل خاص للأمم المتحدة في شؤون حقوق الأنسان في فلسطين.قال متحدثاً عن اول لقاء له مع الأمام الخميني (قدس سره) : لقد جربتُ اول لقاء لي مع آية الله الخميني في نوفل لوشاتو في باريس، حيث كان ذلك قبل يوم واحد من عودته المظفرة الى ايران بعد 14 عاماً من النفي. كنتُ اعد نفسي لمغادرة ايران الى امريكا بعد اسبوعين، حيث كانت (ايران) تشهد ايامها الاخيرة لانتصار الثورة. كان حضوري في ايران تلبية لدعوة من السيد مهدي بازركان.. الرجل الذي نُصِّب بعد فترة، رئيساً لوزراء دولة مؤقتة للجمهورية الاسلامية. كان يرافقني في الزيارة، رمزي كلارك المدعي العام السابق في امريكا (والذي لايزال حتى الآن احد الشخصيات السياسية البارزة في امريكا)، وفيليب لوس، زعيم احدى المنظمات الشعبية الدينية (الذي اشتهر، خاصة، بوقوفه ضد العنف ومعارضته للحرب في فيتنام)... كنتُ أنذاك، على رأس لجنة امريكية صغيرة، ضد التدخل الامريكي في ايران.. واعتقد انّ دعوة بازركان لي، كانت بسبب انشطة هذه اللجنة، وذلك، للأطلاع عن كثب على الثورة الأيرانية.
كانت لنا لقاءات متعددة مع شرائح واسعة من الشخصيات الدينية والعلمانية في ايران، منهم: شابور بختيار رئيس وزراء الشاه، و، ويليم سوليفان الدبلوماسي الامريكي، الذي كان في الحقيقة أخر سفير لأمريكا في ايران.
لقد غادر الشاه ايران، خلال الفترة التي كنا فيها في البلاد، حيث اعتبر الشعب ذلك، علامة لسقوط الحكم الملكي، فأقام احتفالات عظيمة باهرة اشاهدها لأول مرة في حياتي! فقد توافدت الملايين من الناس على شوارع طهران في اجواء مفعمة بالفرح والأبتهاج.
شاهدة هذه الأجواء من جانب، وتوفّر الفرصة للقاء آية الله الخميني، من جانب أخر، اتاحت لنا تجربة لمس مباشر للثورة الأيرانية... ورفعتنا الى اقصى درجات السرور! كانت الجماهير تصدح باسم سماحته، وملصقات صوره مرفوعة على الأيدي.. وكان واضحاً انه ملهم الثورة ومرشد الأطاحة بأقوى واعنف الأنظمة في العالم.
بالطبع لم تكن لدينا فكرة واضحة حول المستقبل والآمال التي كانت في مخيلة الامام الخميني، فيما يتعلق بذاته والثورة. الشيئ المشهود في تلك اللحظة، اننا تربّعنا امامه في سُرادق ساحة بيته في نوفل لوشاتو. انَّ الذي لفت نظرنا، هو ذهنيته الثاقبة وذكائه. اراد ان يعرف، انه وقد رحل الشاه، فما تريد امريكا فعله؟ وهل انها مستعدة لأحترام النتيجة النهائية للثورة الأيرانية؟ وسألناه، ماهي آماله وامنياته بالنسبة للثورة الأيرانية؟
قبل الأجابة على سؤالنا، صحّح عبارة "الثورة الايرانية" الى "الثورة الاسلامية"، مشيراً بذلك، الى انَّ هذه الثورة، قبل ان تكون منبثقة عن شعور وطني لتغيير الحكم، هي منبعثة عن عوامل ثقافية ودينية.
لقد تطرق الامام الخميني (قدس سره) بعد ذلك، الى احداث ايران وارتباطها باحداث المنطقة باجمعها، مُتنبّئاً بوقوع حوادث في المستقبل، قائلاً:
انَّ النظام السعودي، نظام منحط، وقد عزل نفسه عن الشعب في المملكة (العربية السعودية). ثم ذكر سماحته دوره في ايران، موضّحاً، انه سماحته دخل النضال السياسي، لأن الشاه "اجرى نهراً من الدماء وفصل نفسه بذلك عن الشعب". واضاف قائلاً: انه سيبدأ حياته الدينية، بعد عودته الى ايران، ويسلّم الحكم الى غير رجال الدين.. من الذين يتمتعون بتأييد المتدينين من حُماة الثورة.
لقد ادّخرتُ في ذهني، ثلاثة مشاهد رئيسية، من ذلك اللقاء الذي حدث قبل ثلاثين سنة. اولها، يرتبط بشخصية الامام الخميني، نفسه، الواقعية. كان ذا ذهن وارادة قوية جداً، رغم شيخوخته وضعف بدنه!. المشهد الثاني، نظره حول المستقبل الاسلام السياسي، الذي كان متجذّراً في فكره الديني.. لا في الأطار والأعتقاد الوطني. المشهد الثالث الذي بقى في ذهني، الفرق بين كلامه فيما يتعلق باستمرار حياته الدينية عند عودته الى ايران، وما حدث في ايران في الواقع. اطّلعتُ على انه بعد العودة الى ايران والاقامة لفترة قصيرة في قم، توجه الى طهران، لتوفير الارضية لتدوين الدستورعلى اساس المبادئ الاسلامية، وتشكيل الحكومة.
الشيئ الذي كنت افكر فيه واتداوله مع اصدقائي هو: هل انَّ الامام الخميني، عندما جاء الى ايران، اعاد النظر في دوره السياسي الرئيسي؟ ام، كان يفكر بمثل هذا البرنامج. قبل ذلك؟. الى الأن ... لم اشاهد توضيحاً لماسبق من احد! لعل دليل تغيير موقف الامام (قدس سره)، انه شعر بأنَّ الاسلاميين الليبراليين، كبني صدر وبازركان وقطب زادة، الذين اعتمد عليهم سماحته في تشكيل الحكومة، لم يكونوا ملتزمين بالمستقبل الثوري الذي كان يتوقعه للشعب الايراني. او، لعله عند عودته الى ايران، طالبه كبار رجال الدين، وللحفاظ على الثورة، الاحتراز من خطر الشريحة الاولى للسياسيين بعد حكم الشاه، الذين ترعرعوا في الغرب. ولم يكن لهم موضع اعتماد في ايران، والأخذ بزمام الأمور وقيادة الحكومة.. على اي حال.. اتّضح بعد ذلك انّ "الجمهورية الأسلامية" الفتيّة، هي، نفسها تلك الحكومة المثالية التي كان يصفها الامام الخميني (قدس سره) في خطبه حول "الحكومة الاسلامية" في السبعينات.
في الوقت الراهن، وبعد "الربيع العربي!" في الشرق الاوسط.. يخطر ببالي شيئ أخر حول ذلك اللقاء، يرتبط الى حد ما، بأحداث المنطقة حالياً. كان الامام، خلال نضاله، يرى بأنَّ نظام الشاه يجب ازالته نهائياً وليس اصلاحه! انه سماحته، بهذا العمل، وضع حجر الاساس لعصر جديد في ايران لتسير نحو نظام سياسي جديد. لهذا فالامام الخميني، يجب اعتباره ثورياً حقيقياً، حتى، لو اعتقد الغرب، هنا، بأنَّ اهدافه، سماحته، معارضة للتحديث والقيم العلمانية.
المصدر: شفقنا